!
حامد بن عبدالله العلي*
لا يشكُّ متابعٌ جيـّد لمايجري على المشهد الفلسطيني ، طرفة عين ، أنَّ المشـروع المسمّـى ( المصالحة الفلسطينية ) ، يُراد منه نزع سلاح المقاومة ، فهو من ( المسالحة) ، وليس ( المصالحة ) وأنـّه إنمّـا يدور دوران الرّحى على شـيءٍ واحـد ، هـو محاولة ( تفتيح ) حماس ، وبقية الفصائل الفلسطينية ذات الجناح المسلّح ، والفكر الجهادي ،
أي جعلها مثل (فتـح) تلك التي عبث الصهاينة بعفّتها من بعد أوسلو ، حتى هتكوا عرضها أخيرا ، على يد دايتون ، إذ هـذا العلج هو الذي غـدا بيده تحديد كلَّ شيء له علاقة بالسلاح ، تحت سلطة عباس ، من عدد القطع والذخيـرة ، إلى تعيين الشخصيات الأمنية ، مروراً بالأموال الغربية المطلوبة للأجهزة الأمنيـة ...إلخ ، وما له علاقة بالمال ، والرواتب حتى راتب عباس نفسه ، فحوّل فتـح إلى ( عاهرة أمنيـّة ) أي : جهاز امني تابع للصهاينة ، هدفه القضاء على المقاومة ، وإجتثات حتى فكرته في الضفّة !
هذه هـي كلُّ القصة التي تلخِّـص الهدف الخفي ، لمـّا يُسمى مشروع المصالحة ، وهذا لايعني أنّ كلّ من يجُاري هذا المشروع ، يخفى عليه ذلك ، أو يريد تحقيقه ، لكن ذلك هو غاية واضعيه ، ثم إنّ السياسيين المهرة إذا اضطرُّوا إلى مجاراة المكر بمثله ، يقلبـون ، ولايقبلون أهدافه ، موظّفين المشروع لصالحهم .
وأتى ليمكرَ بي فكدْتُ به ** ومضى يجرُّ حبائلَ الإذلال
وهلـمُّوا لنربط الأحداث ،
لم تألُ الجهود الغربيّة ، والصهيونيّة ، جهداً لتطويع حماس ، منذ نجاحها السياسي حاملة معها فكر ، وسلاح المقاومة ، فحوصرت أمريكيا ، وأوربيا ، رغم نجاحها في الإنتخابات ! ثـم سُلـّط دايتون بأزلامه ، ليؤدّيَ دورَه في غزّة كما فعل ويفعـل في الضفة ، فبُترت يدُه هناك بالحسم في 14 يونيو 2007م ، فضُيّق على غـزّة الحصار الإقتصادي الخانق ، الذي أُضيف إلى الحصار السياسي منذ نجاحها ،
فلمّا لم يزدها ذلك إلاّ صموداً ، بقيت فتح تحيك المآمرات على غزة من إثارة المظاهرات ، إلى التفجيرات ، وتشديد الحصار القاسـي ، وتأليب أهل الدار ، والجوار ، ليضيق الغزاويون ذرعاً بالمقاومة ، ولينقلبوا عليها ، فكانت حماس تدهش العالم بأداء القبضة الأمنيّة المحكمـة ، وحشد التأييد ، وإختراع البدائل السياسية ، والإقتصادية ـ حتى حفر الأنفاق ـ لتبقى صامـدة أمام تلك المؤامرات ..
ولمـّا سُقط في أيـدي أزلام دايتون ، وباءت كلّ المحاولات بالفشـل ، جاء الخيار العسكريُّ مطلع هذا العام ـ حرب الفرقان ـ وتحرّكت الآلة العسكرية الصهيونية العمياء ، تدكُّ كلَّ شيءٍ أمامها في غزة ، وتحرّضها فتح بأحقادها التي لو وُزّعت على الصهاينة لوسعتـهم ! وهي تنتظر ساعة الصفر ، لتتشفّى من حماس بيد الصهاينة جزاري الشعب الفلسطيني!
تحرّضها على إرتكاب كلّ إنتهاكات حقوق الإنسان بأبشع الطرق ، حتى إنّ غولدستون (ابن اليهوديـّة) لم تحتمل نفسُه بشاعة الجريمة (الصهيوفتحاوية ) فأطلق صيحة النكيـر التي صكّت مسامع العالم أجمـع ، وحاول عباس أن ينقذ الصهاينة ، وسحب التقرير ، فدفع أحرار العالم بأسرهـم فـي ظهره دفعـاً ، حتى أُعيـد بالقوة إلى تقديم التقرير ، ففعـل ( مكرهٌ أخوك لابطل ) ..
ولكنَّ الجيش الصهيوني ، هُـزِم هزيمةً منكـرة ، في حرب الفرقان ، وخرج يجـرُّ أذيال الخيبة ، معها تبعات جرائمه التي باتت تلاحقه أشباحُها ، وستبقـى إلى أجـلٍ غير مسمـّى ، وبدا وجهُ سلطة عباس بعد الهزيمـة مُسودَّا وهو كظيـم ..
فجاؤوا بعـدُ بمكرٍ عظيم ، وهو إعادة خنـق غـزّة بمنع مشاريع إعادة الإعمـار ، مـع إبقاء الحصار مستمـرا ، وأشدّ مما مضـى.
والهدف هذه المـرَّة ، أن تبقى حماس وهـي ترى أهل غزة ، يشاهدون آثار الدمار ، والخراب ، والمآسي ، والكوارث ، والنكبات ، التي أحدثتها الحرب الدامية ، ماثلة أمام أعينهم ، يرونها كلّ يوم ، فتُلهب ظهـورَ معنوياتهم بالسيـاط ، وتعمل عملها في نفوسهم ، لتقودهم إلى القبول بالرضوخ ، فيضع ذلك أمام حماس عوائق أعظم من إمكاناتها ، وعلى عاتقهـا أعباء فوق طاقتها ، ومهام أشـدّ جسـامة من قدرتها ، لاسيما هي تزداد بمرور الأيام ، وإشتداد الحصار ،
فيدفعها ذلك كلّه إلى مايسمى (حكومة الوحدة الوطنية ) ، يتوقَّف على تشكيلها، وقبولِ حماس بها ، السماحُ بتدفق أموال إعادة الإعمار ، وفك الحصار.
وليس المقصود حكومة وحدة وطنية تتبنّى المقاومة ، وتتمرّد على دايتون ، إذاً لهان الأمـر ، بل حكومة تقود إلى استنساخ نسخة مما في الضفة إلى غـزّة ..
فليس الهدف من هذه المرحلة ، إلاّ الدخول في عملية جديدة ، ومرحلة جديـدة ، تستأنف نفس المؤامرة التي بدأت بأوسلو ، والتي بدأ تنفيذ أخطر مراحلها بقدوم دايتون ،
وهذه المرحلـة يُراد لهـا ـ وحماس وبقية فصائل المقاومة ترفض ذلك ـ أن تبـدأ بإعادة أزلام دايتون إلى غـزّة ، وأن تنتهـي بـ( تفتيح ) حماس ، وبقيــة فصائل المقاومــة الفلسطينية ، أو ( ديدنتهم ) ـ اشتقاقا من دايتون ـ فيفيق الجميع بعد نهاية هذا النفق ، بأنهم في نفس الحضن الذي فيه عباس وزمرته ، يلاحقون المقاومين في غـزّة ، كما يُلاحقون هنـاك في الضفة.
ولهذا فُتـح لحماس بابٌ من الإتصال أوربيـّا ، وبابٌ آخر من تشديد الضغط مصريّا ، حتى قتل المعتقلين بالتعذيب ! وكثّفـت التحركات السياسية في محاولة لتخفيف الدعم السياسي الخارجي لحماس ، وكلُّ ذلك لدفعها إلى ما كان يُراد لهـا من أوّل الأمر ،
وهـو مصير (فتح ) ، هذه المعادلة : حُقنة عرفات ، أو سُخرة عباس !
وبعد :
فالحقَّ أنّ التحديات التي تواجهها حماس اليوم أعظم من كلِّ مامضى عليها ، وهي ـ لعمري ـ تحدّيات ضخمة ، وقـد تجمّعت في ظروف شبه مستحيلة ، وفي زمن قياسي ، ولا تطيقها حتـّى الجبال الرواسي.
والمرحلة القادمة حاسمـة ، فقد جمُعت عليها الآن كلُّ أسهم الكيد في كنانة كلّ أعداءها : الحصار الإقتصادي ، والسياسي الخانـقين ، ودمار الحرب ، وآثارها الماديّة ، والنفسيّة ، الهائلة على أهـل غـزّة ، والضغوط السياسيّة ، والإدراج على قوائم الإرهاب الغربـيّة ، وخيانة الأنظمة العربية الموالية للغـرب ، وتآمر الفتحاويين ، والتحديات الأمنية داخل غزة ، ما بين المخربين ، والجواسيس الصهيونية ، والفتحاوية ، والمصرية ، والعربية ، وفقر ، وجوع ، ومشكلات أخـرى تترى .
وفي شبه خذلان تام ، ليس من عامّة الأمة ، بل من كثير من قادتها ، ومفكريها ، ودعاتها ، حتّى القنوات الإعلامية الإسلاميّة المختلفة ، والحركات الإسلامية ، لاتزال لاتعطي ما ينبغي أن تعطيه من الدعم المادّي ، والمعنـوي، وحتّى خطباء الجمعة ، يكادون يتجاهلون قضيتهم إلاّ لمامـاً ، وإنما ينشط البعض عندما لايرى إلاّ العيوب ، والأخطاء، فينفـُضُ عنـه غبار النوم فجأة ، ويسلقها بألسنةٍ حداد !!
هذه البلايا كلّها ، إلى جانب أعباء إثبات الكفاءة في إدارة شؤون غزة ، ورعاية مصالح الفلسطينيين فيها ، رغم كلّ تلك الضغوط !
هذا مع الحفاظ على فكر ، وسلاح المقاومة .
ولاريب أنّ كـلّ من يتحلَّى بالإنصاف ، لا يملك إلاّ أنْ يشهد لهذه الحركة بالنجاح الأسطوري في مسيرة النضال الفلسطيني ..
غير أنّ الخوف عليها ـ أيضا ـ لا يجوز إستبعاده ، ومن لايخشى على حركة تحرريّة تتعرض لكلّ هذه الأعاصير ، فإنـَّه جاهل بسنن الحياة ، وكـم من حركة بدأت كثورة البركان ، وانتهت إلى إنبطاح الخرفان ، فكيف إذا كانت مع ذلك تحمل مشروعا إسلاميّا ، يعاديه الشرق ، والغرب .
غيـر أنّنـي قلـت ، ولازلت أقول ، إنَّ أسوء الناس موقفـاً اليوم ، إتجاه هذه المرحلة الخطيرة لخـطّ المقاومة للقضية الفلسطينية ، هو إنتظار من ينتظر ـ وهو متكئٌ على أريكته ـ أن ينهزم الفكر المقاوم في غـزَّة لكي يشمت به ، كما يفعل أهلُ الأهواء ، والأسرى لحظوظ نفوسهم المريضة.
والواجب أن يكون شعورنا أنَّ أيّ تقصير منـّا للدعم المعنوي ، والمادي ، لغـزّة ، سيجعلنا مشتركين في تبعات تلك الهزيمة ، فالقضية قضيتنا ، وليست قضية حماس ، ولا غـزَّة ، ولهم من الحقّ أن يلوموننا ـ إن قصـّرنا ـ على خذلانهم إذا سقط خيار المقاومة في الشَرَك المنصوبُ له ، مثـل أو أكثـر مما نلومهـم ..
أقول هذا مع أننا لانشك ـ بإذن الله ـ طرفة عين أنَّ حماس التي أنارت مسيرتها بوجـوه الشهداء الباسمـة ، وسقت نهجها بدماءهم ، لن تقع في (الشـَّرَك ) مثلما وقعت فتـح ، لا هي ، ولا الفصائل الأخـرى ، وأنها إذا وطأت أرض الفخاخ السياسية ، فلكي تضع هي أيضا شِرَاكها فيـها ، وتحمي المقاومة من تلك الفخاخ ..
وما سمعته من القائد هنية بإذني في الإتصال في العشر الأواخر من رمضان ، يرفع هذا العلم إلى درجة اليقين ، ويصبُّ عليه برد الاطمئنان .
كما أننا لانستريـب أنَّ أسود القسام ، وكلّ الفصائل الجهادية الأخرى ، ستبقى وفيّـةً لدماء الشهداء ، ولقَسَم الجهاد الفلسطيني منذ أن أطلقه القسـَّام ، حاميـةً أقصانـا ، واضعةً تحت قدميها كلَّ (خطّـة دايتونية ) بعـزّة الذين لايهابون الموت في سبيل الله ، ولاتطأطىء جباهم إلاّ لله تعالى ..
فيممّوا وجوهكـم يا رموز الأمة شطر فلسطين ، وأنـتم يا أتباعهم ببصيرة ، وتابعوا ما سيجري فيها في قادم الأيام ، وادعموا المجاهدين فيها ، كي يثبتوا ، فإنها مرحلة خطيرة ، وستتجه إلى عنـق الزجاجة ، فنسأل الله أن يثبت الذين آمنوا ، ويخزي أعداء الله اليهود وأذنابهـم .
والله حسبنا ، وحسبهم ، عليه توكلنا ، وعليه فليتوكل المتوكلون ، فنعم المولى