الجمعة، 15 يناير 2010

نهب الممتلكات الفلسطينية وتوزيع الغنائم في غضون النكبة



صورة نادرة في قرية البصة (محافظة عكا) بعد إحتلالها ويظهر مُهاجرين يهود برغال فيها. 1949



إقتباس من كتاب 1949 الأسرائيليون الأوائل للكاتب الإسرائيلي توم سيغف
نهب الممتلكات الفلسطينية وتوزيع الغنائم في غضون النكبة ترجمة: خالد عايد، رضى سلمان، رنده حيدر، كمال إبراهيم
صورة نادرة في قرية عاقر(الرملة) بعد إحتلالها ويظهر مُهاجرين يهود وهم ينهبوها . 1949
المقال التالي للمُحقق الصحفي الإسرائيلي توم سغيف سيعطيك صورة واضحة عن نهب الصهاينة للمتلكات الفلسطينية وعملية توزيع الغنائم خلال وبعد النكبة. يرجى الملاحظة بأن كل الحقائق التالية مُستندة ومدعومة مما تم الكشف عنه من الأرشيف الصهيوني. الرجاء تعميم هذا المقال لكل قريب وصديق فالقراءة برأينا ضرورية.
مساء الثامن والعشرين من شباط، بطريق الصدفة دخل احد جنود كتيبة 169
مبنى عربياً مهجوراً، غير بعيد عن خط التقسيم بين جزئي القدس. إكتشف في الطبقة الأرضية مخزن بضائع يحتوي على كميات ضخمة من الأدوات المنزلية. وبعد عشرة أيام اوقفت الشرطة في سوق محانيه يهودا جنديين من تلك الكتيبة، وفي حيزتهما رزمة من المخزن نفسه. وقد أسفر التحقيق في القضية عن ملف ضخم، مكتظ بالشهادات والأسماء (وكان قائد الكتيبة إسمه دوف يرمياهو).
من الوثائق التي يحتويها الملف، إتفاق بين قائد السرية ومتعهدين إلتزموا بإخلاء البضائع قانونياً، الى مخازن القائم على أملاك العدو، مقابل 30% من قيمة البضائع كما كان مألوف. وفي هذه الحالة، وقعوا تعهداً بحسم 10% من قيمتها لحساب صندوق السرية. وقد فسر القائد ذلك، فيما بعد، بأن تجاربه في الأحياء التي اُحتلت، علمته انه لا يمكن السيطرة على الجنود في مثل هذا الحالات. وإضطر، بحسب قوله، الى تأمين مكافأة لهم ولو مجرد دخل لصندوق السرية، لأنه خشى، ما لم يحدث ذلك، أن يشكوا في حصوله على منفعة ذاتية من القائم [على املاك الغائبين]. وقد سجل قائد الشرطة االعسكرية في القدس، روزينبلات شمو -في الملف- ما يلي: ((هنالك الكثير من المبررات للجنود الذين أصروا على مطالبتهم ب10% من العائدات، حين وجدوا ان مقاولين يوشكون ان يغتنموا بهذا المقدار وبصورة أكثر سهلة)).
كان النهب والسلب، في أثناء الحرب وبعدها، شائعين جداً. وقال
بن-غوريون في إحدى جلسات الحكومة إن ((المفاجأة الوحيدة التي واجهتني، وهي مفاجأة مُرة، كانت إكتشاف عيوب خلقية في داخلنا، عيوب لم أشك في وجودها، أقصد عمليات النهب الجماعي الذي إشترك فيه كل أوساط الييشوف [إسم يطلق على المُهاجرون اليهود قبل النكبة])). لقد سرق الجنود الذين دخلوا المنازل المتروكة، في المدن والقرى التي إحتلوها، كل ما تطله اليد: منهم من أخذ لنفسه، ومنهم من سرق ((من أجل الرفاق))، او ((لصندوق السرية))، وهناالك من سرق ((من اجل نواة [الأستيطان])) أو ((من أجل المزرعة)): أدوات منزلية، وأموالاً نقدية، وجرارات زراعية، وشاحنات، وقطعاناً [للماشية] بالكامل.
وروى الوزير باخور شالوم شطرت لزملائه في اللجنة الوزارية لشؤون الأملاك المتروكة أنه زار بعض المناطق المحتلة ورأى النهب بأم عينيه. وقال((ان الجيش أخرج من
اللد وحدها 1,800 شاحنة محمولة بالممتلكات)). وإعترف وزير المالية، ابلان، بأن((وزارة المالية او القائم على أملاك العدو لا يسيطران، في الواقع، على الوضع. والجيش يفعل ما شاء)). وقال القائم على أملاك العدو، دوف شفرير، للوزراء ان قادة الجبهات ونوابهم معنيون بمنع اعمال النهب،((لكن اُمناء مستودعات الكتائب والفصائل المختلفة ليسوا كذلك)). أما دوف يوسف، الحاكم العسكري للقدس، فقد كتب لبن-غوريون: ((ينتشر النهب من جديد ....ولا يمكن التحقيق من صحة الأخبار التي تصلني كلها، لكن الإنطباع الذي تكوّن لدي هو ان لا رغبة كبيرة لدى القادة المحليين في الإهتمام بإعتقال اللصوص ومعاقبتهم ... إنني أتلقى الشكاوي يومياً، وعلى سبيا المثال اُرفق نسخة عن الرسالة التي تلقيتها من رئيس (دير) نوتردام دوفرانس. إن ضرراً كبيراً قد يلحق بنا من هذا التصرف في هذا الدير. لقد بذلت جل ما استطيع لوقف السرقات التي يقترفها الجنود هنا، لأن لا مجال لوصول المدنيين الى هذا المكان. لكن، كما سترى من الرسالة، تتواصل هذه الأعمال بغض النظر عن مركزي في الجيش ... إنني عاجز)). بعد زمن أبرق يوسف: ((الليلة دخل نحو سبعة مُسلحين، بلباس عسكري، ساحة مبنى جمعية الشبان المسيحية (YMCA) [الموجودة في القدس الغربية] وسرقوا ثلاث سيارات جيب تابعة للأمم المتحدة. لقد أسكتوا حرس الشرطة والعريف الذين كانوا يحرسون المكان بقولهم أنهم جنود ينفذون عملية عسكرية)). وقد وعد بن-غوريون أن يستوضح موشيه ديان، خلال إقامته بالقدس، عن الإجراءات التي يجب إتخاذها ضد مأسات السرقات. لقد أزعج الوضع بن-غوريون كثيرا. وقبل إحتلال مدينة الناصرة أصدر تعليمات لرئيس البلماح [القوة الضاربة للهاغانا] يادن: ((يجب إطلاق النار بلا رحمة ضد أية محاولة نهب يقوم بها جنودنا)).
صورة نادرة في قرية المسمية الكبيرة(محافظة غزة) بعد إحتلالها ويظهر مُهاجرين يهود فيها. 1949
تضمن تقرير رسمي كتبه القائم على أملاك العدو وصنفه: ((سرّي وشخصي)) كالتالي: ((..... إن الهرب المضطرب لجماهير السكان العرب وتركهم أملاك كثيرة بمئات وآلاف المساكن والمحلات والمخازن والمشاغل وترك المحاصيل الزراعية في الحقول والفاكهة في البساتين والبيارات والكروم، وذلك خلال فوضى الحرب وفي خطوط الجبهة وفي فترة الإنتقال السياسي من حكم الإنتداب الى الحكم الأسرائيلي، وفي غياب سلطة مُستقلة في كل مجالات الحياة، وقف الييشوف المقاتل والمنتصر أمام إغراء مادي خطر، فالإحساس الخلقي لأقلية مُهاجمة دافعت عن نفسها وهزمت المهاجمين الأكثر، أجازالتمتع بغنائم العدو. إن غرائز الإنتقام، والتبرير الخلقي، والإغراء، ضللت الكثيرين. في هذه الظروف ربما كان من شأن عمل حازم الى أقصى حد، من الحكم العسكري والإداري والمدني والقضائي، أن ينقذ ليس الأملاك وحدها بل أفراداً وهيئات كثيرة أيضا من إنحطاط خُلقي. هذا العمل الحازم لم يتم، وربما لم يكن ممكن التنفيذ في تلك الظروف. فتهاوتت الأمور في هذا المجال الى منحدر بلا فرامل)). بعد أيام كشف القائم على أملاك العدو اللثام عن السر: (( لقد وجد المراقبون مُعظم البيوت مُستباحة وخالية من الأثاث تقريباً)). وكشف في مذكرته: ((لم تصل الى المخازن (التابعة للقائم على أملاك العدو) ملابس قط، ولا حتى أدوات منزلية أو أدوات مطبخ ولا مُجوهرات أو أسرّة، بإستثناء فرش وما شابه ذلك .....)). لقد أترك العرب أكثر من 50 ألف منزل، بينما وصل الى مخازن القائم على أملاك العدو و509 سجادة فقط. نسب القائم على أملاك العدو ذلك كله ((الى الغرائز الشرسرة وضعف الوعي لدى الكثيرين من الييشوف اليهود، الذين لم يكونوا ليجيزون لأنفسهم في الحياة العملية تصرفاً فاسقاً إزاء أملاكاً أجنبية)). لقد أجاز الموظف لنفسه [إستخلاص] افكار فلسفية لتبرير ذلك: ((حقاً إن التاريخ يعيد نفسه في كل ما يتعلق بالغريزة الأنسانية)). وإستطرد قائلاً: ((جاء في تاريخ شعب إسرائيل ببساطة ووضوح ومن دون أية تورية، النص التالي: ((وخان بنو إسرائيل خياتة في الحرم فأخذ عخان بن كرمي بن زبدي بن زراح من سبط يهوذا من الحرام))(يشوع، الاصحاح السابع، الفصل الأول) ولدى تجوالك اليوم في البلد، في القرى والمدن وفي الأماكن التي تم فيها توطين المهاجرين والجنود المسرحين، وفي الوقت الذي فيه الحياة الصاخبة (...) يمتزج فرحك بالحزن، حزن الظل - ظل عخان الذي أخذ من الحرام)).
بحثت الحكومة خلال جلساتها في أعمال النهب مرات كثيرة. وقد أعلن الوزير شطريت سرقات في
يافا وحيفا، وسأل الوزير مُردخاي بنطوف عن قافلة الغنائم التي غادرة القدس. أما الوزير تسيزلينغ فقال: ((قيل أنه حدث أعمال إغتصاب في الرملة. أستطيع أن أغفر عمليات الإغتصاب، لكن لن أغفر أعمالاً اُخرى تبدو لي أكثر خطورة. عندما ندخل مدينة ونسحب بالقوة الخواتم من الأيدي والجواهر من الأعناق فهذه عملية في غاية الخطورة. ..... كثيرون متهمون بذلك)). وكتب عضو الكنيست أمين جرجورة، أحد أعضاء القائمة الديموقراطية من الناصرة المرتبطة بماباي، تقريراً جاء فيه: ((بعد يومين من إحتلال قرية الجش (غوش حلاف) من أعمال صفد، طوق الجيش القرية وفتشها. وفي أثناء التفتيش نهب الجنود بيوت السكان، وسلبوا نحو 605 ليرة إسرائلية وحلي وأشياء ثمينة اخرى. وعندما طالب المسلوبون بفاتورة إستلام اُخذوا الى مكان ناء وقتلوا بإطلاق النار عليهم. إحتج القرويون على هذا العمل امام قائد المحلي، مانو فريدمان، الذي أمر بإحضار الجثث الى القرية. لقد وجد إصبع احد القتلى مقطوعاً: لقد قطع من اجل سرقة خاتم ...)) وتحفظ في أرشيف الدولة ملفات كثيرة فيها معلومات عن السلب والنهب، بما في ذلك أعمال عصابات اللصوص العبرية: بعض هذه الملفات مقفل للتحقيق وبعضها ((لم يُفتح))، شأنها في ذلك شان ملفات وزارة الأقليات المتعلقة بعمليات الطرد السكاني. ثمة ما يمكن إستنتاجه فعلا من قائمة موجودات الأرشيف التي تشابه بين امور اخرى هذه الملفات: عصابات لصوص: كفر برعم، تسلل الى قرى الأقليات: قرية إقرت، قرية معليا، قرية فسوطة، قوة عسكرية: سرقة أملاك عربية متروكة، جيش الدفاع الإسرائيلي: إحتلال وسرقة بيت جمال[غرب القدس]، أملاك متروكة: إحتفاظ بدون إذن (مزارع الجليل)، نهب: قوة عسكرية -دير تيرا سانتا، نهب دير، إعتداءات، قائمة بالأغراض المنهوبة، نهب قرية الرامة -قوة عسكرية، نهب: قرية دير حنا، دعاوى تعويض عن نهب قطعان ماشية القرية، نهب عصابات في عكا، نهب : يافا، نهب: حيفا، أماكن مقدسة للمسيحيين، نهب: تخريب في أملاك عربية، نهب قرية طمرة -ماعز، نهب شفا عمرو - غلال، نهب بضائع: الرملة، اللد - كتيبة 89 (م. دايان). قال عضو الكنيست يوسف لام (ماباي): ((لم يتصرف أحد منا وقت الحرب كما كان متوقعاً من الشعب اليهودي، سواء بالنسبة الى الممتلكات أو بالنسبة الى الأحياء،. ولدينا جميعا ما نخجل منه)).
صورة نادرة للمغتصبين اليهود وهم ينهبون قرية
عين كارم (القدس الشريف) 1949.
ولد شفرير، القائم على أملاك العدو، في مدينة تشتسلنيك في اوكرانيا. وهو من نشيطي ((هابوعيل هاتسعير)) [العامل الفتى] والمركز الزراعي ومشروع الإسكان ((نافية عوفيد)). كان في الخمسين من عمر عندما تولى مهمات وظيفته بعد يومين من إحتلال
اللد والرملة، وفي ذلك الوقت كان خاضعاً لوزير المالية. كتب فيما بعد: ((كان واضحاً لي ان طابع القضية التي كلفت بتوليها يتطلب عملاً سريعاً وجدياً للسيطرة على المنطقة والممتلكات الهائلة الموزعة على مئات القرى والمدن)). من أجل ذلك كان عليه ان يرسل رجاله من بيت الى بيت، ومن حانوت الى حانوت، ومن مخزن الى مخزن، ومن مصنع الى مصنع، ومن محجر الى آخرى، ومن حقل الى حقل، ومن بيارة الى اُخرى، وأيضا من مصرف الى مصرف، ومن خزنة الى خزنة اخرى، ليحصوا، وليقيسوا، وليزنوا ، وليخمنوا، وليستبدلوا أقفال المنازل ونقل كل ما يمكن نقله الى مخازن محروسة ومحمية، مسجلين بدقة المتلكاتات وأماكنها، والمجموع نحو 45 ألف مسكن و7,000 حانوت ومتجر و500 مشغل وورشة صناعة، وأكثر من 100 مخزن. وكان هنالك في المقابل، ضرورة لمواصلة الحصاد وقطف الزيتون وجمع التبغ وقطف الفاكهة من البيارات، في مساحة تقارب ثلاثة ملايين وربع المليون من الدونمات، مع الحاجة الى العناية بقطاع الحيوانات (كالماعز، الأغنام، والدجاج) وتسويق الإنتاج وجباية ثمنه وإيداعه في خزينة الدولة، كانت هذه مهمة مستحيلة، حتى ولو وضعت في تصرف القائم على أملاك العدو كتائب من العمال المتخصصين والأمناء: كان الجهاز الذي وضع في تصرفه محدوداً جداً. وكان العمال الذي نجح في تجنيدهم عديمي الخبرة، في معظمهم، ولم يعرفوا نُظم الإدارة، وبعضهم لم يكن أميناً: لقد سمع بن-غوريون أن بينهم لصوصاً ومُحتالين. وكان القائم على أملاك العدو يواجه مهمة صعبة للغاية، على الرغم من تعاون الجيش مع رجاله، وإصراره على من سلب، لكن الجيش لم يساعده في غالب الأحيان : مرت ساعات، وأحيانا أيام، حتى سُمح للقائم على أملاك العدو ورجاله بدخول القرى والمدن المحتلة، وفي الكثيرمن الحالات لم يبقى لهم عمل سوى تسجيل الدمار والنهب. كان هناك مواطنون كثيرون ايضاً ممن قاموا بالنهب في حيفا ويافا والقدس. ونجحوا بطريقة أو اخرى في إستباق مراقبي القائم على أملاك العدو. وكتب أيضا الأديب موشيه سميلانسكي: ((لقد إستولت على السكان شهوة عارمة للإستيلاء على الغنائم، افراد، جماعات، كبيوتسات، رجال، نساء وأطفال، الجميع إنقضوا على الغنائم: أبواب، ونوافذ، وعتبات، وملابس داخلية، وقرميد، وخردة، وقطع آلات ...)). وفي الإمكان أن نضيف أيضا كراسي مراحيض، ومغاسل، وحنفيات، ومصابيح كهربائية.
خلال زمن غير طويل بداء القائم على أملاك العدو توزيع الممتلكات المُصادرة بنفسه. وورد في تقرير شفرير ما يلي: ((في البداية تسلم الجيش بضائع وموارد وأعتدة، مباشرة من المحلات في المدن المحتلة .... أما البضائع التي لم يكن الجيش بحاجة اليها فقد طرحت للبيع، حيث باعتها دوائر خاصة اُنشئت لهذا الغرض وجُمعت، بقدر ما تتيحه ظروف الحرب، مهنيين لفروع التجارة الرئيسية. وتشكلة قي حيفا حتى نهاية تموز/يوليو لجنة للمبيعات مُؤلفة من أفراد مرموقين. كانت اللجنة فعالة جداً في تحديد اُسس بيع البضائع. وسعت لتغير المزاج العام إزاء الأملاك المتروكة. وإستنتجت، بعد عدة أشهر، أن ليس في إمكان اللجنة الشعبية الإهتمام اليومي بعمليات البيع .... (بعد ذلك) إتفقت على اسلوب بيع المُنشآت بطريقة العطاءات (المناقصات) وليس بالضرورة لأشخاص يزاولون المهنة نفسها. وبيعت سلع اُخرى عن طريق مُفاوضات مع رجال التجارة والصناعة طبقا لمهنهم. وكان الجيش كما ذكر، أولوية في أن ينال البضائع والموارد التي يحتاج إليها. واُعطيت بعد الجيش أفضلية تسلّم بضائع مُختلفة لوزارات الحكومة، ولمصابي الحرب، ولدوائر الوكالة اليهودية، وللسلطات المحلية، ولمؤسسات عامة مثل ((هداسا)) وغيرها. لم تباع بضائع لأفراد [للإستعمال الخاص] بل للتجار بطريقة الإعلان الداخلي، من دون إعلانات في الصحف. كانت أقسام المبيعات في الوزارات على إتصال مُباشر بمنظمات التجار بحسب الفروع. إن معظم الورش التي كانت مطلوبة للجيش مثل ورش النجارة والحدادة والسمكرة والخراطة وما شابهها، بيعت له. وقدمت عروض لتشغيل الورش الصناعية في أماكن تواجودها، بمقدار ما أمكن ذلك. أما المصانع التي يتوفر مستأجرون لها فقد بيعت في المزاد غالباً.
((بيع الأثاث: كانت هذه القضية صعبة ومُعقدة، إستمرت زمناً طويلاً. صادر الجيش من المنازل وتسلم من المخازن مفروشات بعشرات الآلاف من الليرات الإسرائيلية، للمكاتب وللملاجئ وللأندية وغيرها. وجمعت بقية المفروشات في المخازن. وقررت اللجنة الوزارية ... تنظيم تخمين أسعار المفروشات بواسطة خبراء وتجار وتسليمها الى المشترين مختلفين، بموجب التخمين الذي سيجري. وفي حال بقي بعض المفروشات بعد البيع العام، سيقرر القائم على أملاك العدو طريقة لبيعها. لقد تحدد ترتيب مجموعات المشترين على النحو التالي: عائلات مشوهي الحرب، عائلات الجنود، موظفو الحكومة الذين نُقلوا من
القدس، مواطنون اصيبوا في الحرب، وأخيرا المواطنون العاديون. عمليا، لم يصل البيع الى المجموعة الأخيرة، لأن المجموعات الأولى إشترت المفروشات كلها تقريباً)).
صورة نادرة لقرية يازور (محافظة يافا) بعد إحتلالها ويظهر مُهاجرين يهود فيها. 1949
إقترح يوسف يعقوبسون، وهو مزارع برتقال وفيما بعد مٌستشار لوزارة الدفاع، على بن-غوريون أن يأخذ
مصنعاً لإنتاج الأحذية في يافا من أصحابه وأن ينقله الى ملكية مصنع ((منعال)) في غفعات هشلوشاه. سأل بن-غوريون وزير الماليه عن رأيه فقال كابلان أنه يجب عدم أخذ ممتلكات خاصة للعرب بالقوة في يافا. إعترض بن-غوريون عليه قائلاً: ينبغي لنا ألا نأخذ الممتلكات الموجودة داخل البيوت السكنية. لكن ذلك لا ينطبق على ممتلكات اُخرى! أعلم يعقوبسون [بن-غوريون] أن الجيش يخلي من يافا.يومياً ممتلكات بقيمة 30 ألف ليرة. ,ابلغ المحامي نفتالي ليفشيتس من حيفا أنه في مصارف حيفا ودائع بقيمة 1,5 مليون ليرة إسرائلية خاصة بالعرب. فقال بن-غوريون : ((المصارف مُستعدة لتسليم هذه الممتلكات)). وهكذا نالت أيضاً مؤسسات الحكم نصيبها من الغنائم. كتب وزير الزراعة، تسيزلينغ، الى بن-غوريون:
((نحن نكرر البحث في جلساتنا، مرة بعد الأخرى، في مسألة مُعالجة الأملاك المتروكة. والكل [من أعضاء الحكومة] أعربوا عن قلق ومرارة وخجل مما يحدث. ولغاية الآن لم نصل الى حل. وإذا كنا نتحدث، بصورة عامة، عن هذه الظاهرة من ناحية الفسق الخلقي للجنود ومواطنين ... الخ، فالأخبار تتكاثر عن عمليات تثبت، طبقاًً لحجمها وطوابعها، أنها لا يمكن أن تتم إلا بموجب تعليمات [حكومية]. إنني أسأل .... على أي أساس اُعطيت التعليمات؟ - لقد سمعت انه تأخر تنفيذها -لتفكيك مُحركات ديزل (لمضخات المياه) في بيارات عربية- ... مع ذلك إستمر النهب الشخصي)). ورد في تقرير القائم [على أملاك الغائبين]: ((إن عملية واسعة الحجم لتفكيك المحركات جرت في كل المناطق. نظراً الى الضرورة الملحة، نفذت المكومة عملية لتجميع كل المحركات الموجودة في مضخات المياه في البيارات المتروكة بسبب السرقات الهائلة، وكي يصبح تشغيلها ممكنا وقت الحاجة)). وفي جلسة الحكومة أيضاً تحدث تسيزلينغ عن نهب المضخات في البيارات. إن تسيزلينغ من جانبه سيمثل، كالآخرين، مصالح محددة جداً. لقد إقترح عليه وزير العدل، روزين، التوجه الى المزارع - ومن بينها مزارع حزبه - ومطالبتها بالتعاون مع القائم [على أملاك الغائبين] طبقاً للأنظمة التي نشرت في هذا الأثناء، والتي توجب على كل من يحتفظ بممتلكات متروكة إبلاغ السلطات بذلك غضون اُسبوعين.
رد وزير الزراعة، وهو من أبناء عين حرود [المقامة على أنقاض قرية
قومية الفلسطينية]، أنه ((ليس من السهل)) عليه التوجه الى المزارع بهذا الشأن. وفي جلسة للجنة الوزارية لشؤون الأملاك المتروكة أوضح تسيزلنغ بعدم إتخاذ إجراءات ضد رجال المزارع الذين ((سيتأخرون)) في تسجيل الممتلكات خلافاً للأنظمة. وتمت الموافقة على توصيته. وقد كلفه زملاؤه الإجتماع مع أمانات السر القطرية لمنظمات الإستيطان، ومع وزير المالية كابلان ((للتحادث في شان هذا الموضوع)).
أفلح الجيش حين وصول شفرير الى
بئر السبع، بعد يومين من إحتلالها، في أن ينقل من المدينة بضعة جرارات، وترك البعض اللآخر في مكانه لينقلها رجال القائم على أملاك العدو ((للتخزين)) في المزارع المجاورة. وذكر شفرير في اللجنة الوزارية: ((يجب الإفتراض أن وزارة الزراعة لا تريد إخراجها [الجرارات] من منطقة النقب، وستكون هنالك حاجة الى توزيعها على المزارع)). وذكر في تقريره أن أدوات وأجهزة زراعية بيعت بموجب توصيات من وزارة الزراعة. وبعد فترة وجيزة أصدر بن-غوريون تعليمات ((للتحقيق في كل مزارع الجليل الأعلى والجليل الأسفل - كيبوتسات، وموشافيم، وموشافات- عن قطعان (بقر وغنم) متروكة والممتلكات الأخرى التى اُخذت من القرى العربية في أيام الإحتلال وبعدها -كالغلال، والمفروشات، وكل انواع الحاجات- وتقديم قائمة مُفصلة بها الى وزير الدفاع)).
بعد بضعة أيام من إحتلال
يافا خرج غيورا يوسفتال، المسؤول عن قسم الإستيعاب في الوكالة اليهودية، لتقدير عدد المهاجرين الذين يمكن توطينهم في المدينة. كان الكثير من شوارع المدينة خالياً من الناس لدى وصوله، والبيوت مهجورة، والحوانيت مقفلة. الأجواء لا تزال مشبعة برائحة الحرب وبشيء من أثر الحياة التي إزدهرت هنا من قبل. كان يوسفتال، ((ييكه[لقب يطلق على المهاجرين اليهود من ألمانية النازية])) طويل القامة، صارماً ومستقيماً، تزود بوثائق مختلفة بينها واحدة من القائم على أملاك العدو واُخرى من بن-غوريون نفسه، الذين وافقا على تخصيص يافا لإسكان المهاجرين اليهود. وقد سجل بن-غوريون في مذكراته: ((ستكون يافا مدينة يهودية، الحرب هي الحرب)). وقد شكل يوسفتال في مكتبه ((لجنة إسكان)) كلفها توزيع منازل المدينة على المهاجرين طبقا لمعايير ومقاييس حددها (مُسبقا)ً. لكن الوقت لم يكن وقت لجان ومقاييس، لقد سقطت بيوت يافا في أيدي الذين وصلول إليها أولاً.
يقول شفرير:
((مع تزايد الهجرة في صيف 1948، بدأت المؤسسات المعنية بها، وكذلك المهاجرون أنفسهم، المطالبة بتحرير أجزاء من المدينة التي كانت مُحتلة والتي لم تخل منها البضائع، بعد، من مخازنها وحوانيتها، بالأضافة للورش والمصانع: في حيفا بدأ مكتب المراقب تسليم مساكن لقسم الإستيعاب التابع للوكالة اليهودية في شهر تموز/يوليو. وكان المقصود أن تسلم المساكن والمتاجر، منطقة بعد منطقة، كلما اُخليت البضائع منها. لكن هذا النظام لم يدم، فقد اُرشدت مئات العائلات من المُهاجرين الى غزو المساكن، الأمر الذي تسبب بفوضى سواء في جمع البضائع أو في توزيع المساكن. وفي يافا كان الوضع أسوأ أضعافا، فقد تقرر فتح جزء من المدينة في 10 أيلول /سبتمبر، وتقرر أيضاً توزيع معين للمنازل على قسم الإستيعاب، وعلى مؤسسات الجيش، وعلى موظفي الحكومة الذين نقلوا الى
القدس، وعلى أبناء المزارع المُخلاة الذين أقاموا حتى ذلك الحين في المدارس بتل أبيب، وعلى عائلات الجنود. لكن قسم الإستيعاب في تل أبيب خرق النظام ونظم ... قبل الموعد الذي تحدد لفتح المدينة لإستيعاب المواطنين. وكلفة الحكومة لجنة لمعالجة توزيع المساكن في يافا، وعقدت هذه اللجنة جلسات توصلت بعدها الى إستنتاجات موثوق بها، لكن الضباط الذين كُلفوا بالمساعدة خرقوا النظام، فسمحوا لمئات من عائلات الجنود بغزو المدينة، وهكذا تعرضت يافا لغزوات وغزوات مضادة)).
نفى قسم الإستيعاب هذه الأمور بشدة. وبحسب قوله، فإن وزارة الدفاع هي التي حاولت السيطرة على المنازل التي خصصت للمهاجرين.
صورة نادرة لقرية يازور (محافظة يافا) بعد إحتلالها ويظهر مُهاجرين يهود فيها. 1949
وطبقا لما كان مألوفا، من ينجح في وضع سرير في غرفة ويمضي ليلة فيها، يستولي عليها. وذات يوم ظهر إبراهيم عامشاليم، 19 عاما، في منزل محمد أبو صيرا في
حي العجمي. وبعد أن هدد العربي برشاش، إقتحم المنزل. وقدم هذا الشاب الى المحكمة، حيث شرح للمحكه أنه على وشك الزواج ولا يملك منزلاً. فحكم علية بالسجن خمسة أيام. وقبل ذلك ببضعة أسابيع, غزا بضع عشرات من الجنود مساكن العرب في حي النسناس وشارع عباس في حيفا. فقد خرجوا في الساعة السادسة فجراً، مُدججين بالأسلحة، وأخرجوا السكان العرب بالقوة وألقوا أمتعتهم في الشارع ثم أدخلوا أمتعتهم في منازل العرب. وكان بينهم جنود من مشوهي الحرب. وقد أخرجتهم الشرطة، لكنهم عادوا في المساء فغزوا مساكن اُخرى، هم أيضاً لم يكن لهم منازل. لم يتوقف العنف على البيوت العربية: فموشيه يوفيطار أخذ مسكنه من القائم على أملاك العدو، ومع ذلك بقي يتعرض للإزعاج كما روى، أشخاص يأتون الى المساكن جماعات من إثنين أو ثلاثة، يقدمون أنفسهم كموظفين في الوكالة اليهودية، ويطلبون رؤية الغرف، ويعاينون عقد الإيجار، ويطرحون أسئلة: كم نسمة تقيم في هذه الغرقة وكم في تلك. عرف يوفيطار أنهم ليسوا من موظفي الوكالة. وإنتهت زيارتهم، في غير مرة، بالشتائم والتهديدات. خاف يوفيطار: ((لا يوجد من أتوجه إليه)). وشكا: ((لا يوجد شرطة مدنية، والشرطة العسكرية بعيدة عن هنا)). وكتب القائم على أملاك العدو، شفرير، ما يلي: ((مُساعدة الشرطة محدودة، والشرطة العسكرية كأنها غير موجودة)). وجند شفرير، بموافقة وزارة الشرطة، عدة أفراد من الشرطة على حساب مكتبه)).
في الإجمال سكن المنازل المتروكة بين 140 ألف و160 ألف مُهاجر يهودي وسكن المنازل المتروكة في يافا نحو 45 ألف مُهاجر، والمدينة السفلى في حيفا 40 ألف، وعكا نحو 5 ألآف. كان الشخص اللذي كُلف بإسكان
عكا مُرخاي ساريد، الذي روى فيما بعد:
((إنكببنا على إحدى الخرائط، وعُرفت البيوت التي سأستلمها. عملت مع مهندسين، وقررنا ما نفعله في كل مسكن. هنا أحواض، وهناك تبيض.هنا تبليط، وهنالك مجارير)). لقد نفذت أعمال الترميم على حساب الوكالة اليهودية. وألزم القائم على أملاك العدو إعادة الأموال من إيجار المسكن الذي يجبيه من المهاجرين ويذكر ساريد انه في إحدى الأيام إهتم بسلامة المهاجرين، واُبلغ أنهم ((يتدبرون أمرهم)). أجاب حسناًً، فليتدبروا أمرهم. وشرح له أحد مُساعديه معنى ذلك: ((إنهم يسحبون الطاولات والخزائن من البيوت المتروكة)). وهذا ما سُمي عندهم بتدبير الأمر. ((ذهل ساريد كثيراً)) على حد قوله، وإستدعى النافذين من المُهاجرين وطلب منهم إعادة كل الممتلكات المسروقة. وعلى حد قوله، اُعيد ((كل شيء تقريباً)).
أكد بن-غوريون في إحدى جلسات الحكومة، أنه على علم بخطة إخلاء عكا من سكانها العرب ((لمناسبة إقتراب الجبهة)). وقال ان الحكومة كلها ستجبر على أخذ قرار بتنفيذ الإخلاء. إن قرار إسكان عكا بالمهاجرين إتخذ في اللجنة الوزارية لشؤون الأملاك المتروكة قبل نحو عشرة أسابيع.
أرسل مُرداخاي ألكاييم لتنظيم توطين المهاجرين في
الرملة. وكانت خطوته الأولى ان بتفقد المدينة برفقة عاملين إجتماعيين. ثم نظم بعد ذلك عملية التوطين، بالتعاون مع حاكم المدينة العسكري، في منطقة تلي الأخرى. وروى فيما بعد:
((قررنا ان نبدأ بمنطقة مُعينة، لم يكن هنالك كهرباء لكن المياه كانت مُتوفرة. ولم تكن المنازل في حالة سيئة. والترميم لا يحتاج الى وقت طويل. بعد ثلاثة أيام وصل أوائل المهاجرين -36 عائلة من أصل بلغاري. أتى ألكاييم الرملة من دون طاقم، عدا مُساعدينن إثنين. وجند موظفيه من المهاجرين أنفسهم. كانت مهمتهم التجول بين المنازل الخالية، لتسجيل عدد الشقق في كل بيت وتحديد العائلات التي ستسكنها. وعندما وصل المُهاجرون كان رجال ألكاييم يقودونهم االى الشقق، ويوزعون عليهم الغرف، ويحددون إستخدام الخدمات. قال ألكاييم: ((اُلصق على كل باب إسم العائلة وعدد الغرف التي في عهدتها، كي لا تتمكن من غزو غرف اُخرى)). وطبقاً لأقواله أشترى المهاجرون أثاثهم من القائم [على أملاك الغائبين] وهناك من حمل معه شيئاً ما من خارج البلد. لكن عندما سُئل عما إذا كان هناك من سرق من أثاث العرب أجاب: ((طبعاًً كانت هناك فوضى غير قليلة. إشتروا وصادروا، وفي اية حال تدبروا أنفسهم. ووجدت طلائعهم بقايا أثاث هنا وهناك، في حين لم يجد المتأخرون ما يبحثون عنه)). هناك مهاجرون دخلوا عنوة غرفاً لم تكن مُخصصة لهم. بمساعدة الجيش، اُجبرنا على إخلائهم بالقوة.
حتى نهاية السنة وُزع على المُهاجرين في الرملة نحو 600
حانوت. لم يكن لدى ألكاييم فكرة عما تحتاج إليه المدينة، وبناء على ذلك ذهب الى تل أبيب. وروى فيما بعد: ((تجولت في الشوارع، وأعددت قائمة بكل أنواع الحوانيت، وقدرت عدد محلات البقالة التي يجب أن نفتحها، وكذلك الملاحم، وصالونات الحلاقة، والمقاهي)). ووزعت المحلات، طبقا لقوله، بناء على قرار اللجنة وأخذ في عين الإعتبار الجنود ومشوهي الحرب بصورة خاصة، لكن بعضها تم تأجيره للمن يستطيع دفع الإيجار. وحتى أيار/مايو 1949، كان قد اُسكن في الرملة نحو 8,000 شخص وفي اللد نحو 8,000 شخص. في أيار/مايو 1949 أيضاً، كان تيار الكهرباء مقطوعاً، وكان هناك نقص في المياه، لكن معظم الأحزاب أفلحت في فتح فروع وأندية له في المدينة. ومن الأملاك التي سُلمت للمهاجرين أيضاً، مصنع لصنع الأزرار، ومعمل للمرطبات، ومصانع لإنتاج السجق والثلج والأقمشة والمعكرونة.
صورة نادرة لاسرائيليين وهم ينهبون حي المُصرارة في القدس الشريف- نهاية 1948هذا ما حدث في القدس أيضاً، ففي نيسان/إبريل تقرر تخصيص 400 مسكن لموظفي الحكومة الذين سينقلون الى القدس. لقد مُنحوا أولوية السكن في
حي البقعة وفي الحي الألماني والحي اليوناني. وتسلم قسم الإستيعاب منازل حي المُصرارة وقرية لفتا. وقد عُين شاؤول أفيغور،أحد مساعدي بن-غوريون المقربين، حكماً نهائياً في حال الخلافات. لم يرد في وثيقة التوزيع هذه، كما درجت العادة، ذكر للمنازل الموجودة في حي الطالبية الفاخر التي وزعت على موظفين كبار ومقربين وذوي علاقة على مُختلف أنواعهم: موظفي الحكومة، قضاة، أساتذة في الجامعة العبرية وأمثالهم. وفي القدس أيضاً ((دُفع مئات الأفراد الى غزو)) المنازل الفارغة. مركز المُهاجرين في البقعة أرسل المهاجرون لللإستيلاء على مساكن خصصت لموظفي الحكومة وأمثالهم. غزا المئات من الأفراد مساكن من تلقاء أنفسهم. وتحفظ في ملفات قسم الإستيعاب أسماء الغزاة والى جانبهم توصيات بالسماح لهم بالبقاء في المساكن التي صادروها، كمن نالها قانونيا: ((كلاين موشيه: تاريخ الهجرة 22/7/1949، بلد الأصل هننغاريا، عدد الأنفس 4، دخل عنوة في 21/12/1949 المجموعة رقم 160، قسيمة رقم 302، عدد الغرف 2، تاريخ التوصية 25/1/1950،عميرام مسعود: هاجر في 1/3/1949، بلد الأصل الجزائر، عدد الأنفس 8، دخل عنوة في 23/8/1949 المجموعة رقم 112 قسيمة رقم 13، عدد الغرف 2، تاريخ التوصية 24/1/1950)). ويبدو أن التوصية كانت في الأساس إجراء شكلياً. وحذر يتسحاق بن تسيفي:
(( إذا ذهبنا الى رؤساء الطوائف اليهودية لجمع التبرعات في خارج البلد سيُطرح السؤال أيضاً عن كيفية إستغلال المساكن العربية التي اُخليت. فقد اُخلي أكثر من 400 ألف مسكن، واُسكن فيها 70 ألفاً من المُهاجرون فقط. قد يُفسر هذا كإهمال من جانبنا، فإستغلال الأماكن المتروكة ضروري)).
إن عشرات الآلاف من الأسرائيليين، جنوداً ومدنيين، نالوا قسطهم من الغنائم. واحد صادر مقعد وآخربساطاً، وواحد أخذ آلة حياكة والثاني آلة حصاد، وواحد إستولى على مسكن وآخر على كرم زيتون. وبسرعة فائقة ومن دون صعوبة، ولدت خلال ذلك طبقة -بالتأكيد صغيرة جداً- من الأغنياء الجدد، والتجار، والسماسرة، والمقاولين، والوسطاء على أنواعهم، والصناعيين والزارعيين. هناك ما أخذ ما أخذ بالسرقة، وهناك من نال من نال بالقانون، عُقد جزء كبير من هذه الصفقات في إجرائات لم يبت بها القانون (ما بين المحظور والمسموح به، ما بين ما هو منهوب وما بين ما هو مصادر). كانت هناك لجنة لأملاك العرب عينتها الهاغاناه قبل تعيين القائم على أملاك العدو. ومع إحتلال حيفا و
طبرية وصفد ويافا والقدس، عينوا مُحاميين محليين للإشراف على الأملاك المتروكة. لقد قرروا تركيز الرقابة في يد واحدة وزيادة نجاعتها نتيجة كثرة الأملاك وتكاثر النهب: في عهد الإنتداب كان في البلد قائم كان يشرف على ممتلكات ألمانية وغيرها. وفي الأشهر الأولى رأوا في القائم على أملاك الألمان وصيا ذا مهمة مؤقتة فقط: كانت وظيفته الحفاظ على الأملاك التي أتركها اللاجئون الألمان وصيانتها جيداً الى أن يعودوا وتعاد أملاكهم اليهم. إن أنظمة الطوارئ التي إستخدمت اساسا لأعمال القائم على أملاك العدو، قيدت صلاحياته. فكان محظوراً عليه بيع الممتلكات التي إحتفظ فيها، [ويجوز] له فقط تأجيرها لفترة لا تزيد عن خمسة سنوات، ولم يُنتزع من اللاجئين حق الملكية. لكن في معظم الحالات لم يسمح لهم بالعودة، ولم تعتزم إسرائيل أن تعيد اليهم ممتلكاتهم. صحيح أن الدولة أعلنت إستعدادها لتعويضهم من ممتلكاتهم، لكن في إطار إتفاق سلام شامل فقط. وقد إنشغل ديفيد بن-غوريون أيضاً، قبل إنشاء الدولة، بمصير ممتلكات العدو، وقرر آنذاك أن ((الممتلكات هي للحكومة)). لقد إهتم رئيس الحكومة كثيرا بطرق مصادرة حق مُلكية الأملاك المتروكة، وأكثر من إستدعاء مستشارين قانونيين وخبراء آخرين وبحث معهم في مختلف الإحتمالات. وسجل في مُذكرته:
((...إن القانون يقيد الحكومة في الإستعمال الفعّال والثابت للمتلكات، لكن الحكومة تتصرف عملياً في الممتلكات كما تشاء من دون اُسس قانونية. حتى أنها باعت مليون دونم للكيريم كاييمت (الصندوق القومي اليهودي). في هذه الأثناء عاد بعض العرب وعزموا على رفع دعاوي. وإقترح (يعقوب شمعون) شابيرا (مُستشار الحكومة القضائي) تغيير قانون الأراضي وإدخال بند يجيز للحكومة حق تملك الأملاك المتروكة. أما (زالمان) ليفشيتس فإعتقد أن هذا غير جيد ويجب وضع قانون خاص، إذ يجب عدم إستخدام قانون للمصادرة، لأن قانون كهذا يستوجب مدفوعات بحسب أسعار السوق. سألت شابيرا: إذا وضعنا قانون طوارئ (من دون الكنيسيت)، تنتهي صلاحيته بعد نحو ثلاثة أشهر، ينص على أن القائم على أملاك العدو مُخول بنقل الأملاك المتروكة الى سلطة الإعمار. وستحدد الحكومة سلطة الإعمار في وزارة الزراعة أو في وزارة اُخرى (وتنقل الممتلكات فوراً) الى هذه السلطة وبعد ثلاثة اشهر يبطل مفعول القانون. لأنه من غير المرغوب فيه إجراء نقاش علني في الكنيسيت: هل سيكون هناك مفعول قانوني حتى بعد ثلاثة أشهر على النقل؟ أجاب شبيرا نعم. وكلفنا كلا من شابيرا، ودولك (د. هوروفيتش)، وشفرير، وليفشيتس، إعداد القانون. لقد بدا (للحاضرين) أن من الأفضل أن يمر القانون في الكنيسيت)).
صورة نادرة في ليافا بعد إحتلالها ويظهر مُهاجرين يهود في المقدمة ويظهر جامع حسن بيك في الخلف. 1949
بدءاً من النصف الثاني لسنة 1948 عملت وزارة العدل على صوغ قانون الخاص بأملاك الغائبين، الذين أستهدف إشراك القائم على الأملاك في مُلكية الممتلكات التي إحتفظ بها حتى ذلك الحين كوصي، أي مصادرتها من أصحابها السابقين، وتخويله نقلها الى ((سلطة الإعمار)) التي كان من المفترض إقامتها لهذه الغاية بقانون آخر. لقد عرّف مشروع وزارة العدل مُصطلح ((غائب)) بمعناه الحرفي كمن غاب، أي كل من لم يعد موجوداً على اراضي الدولة. وعندما ناقشت اللجنة الوزارية مسودة المشروع طلب
موشيه شاريت تعديلها، وتعريف الغائب بأنه كل من هجر منزله بعد تاريخ 29/11/1947 بغض النظرعن مكان تواجده بعد ذلك. لقد أشار في أثناء ذلك الى الآف اللاجئين الذين هجروا قراهم وقطنوا في الناصرة: إذا لم يعرّفوا كغائبين فسيكون من الواجب السماح لهم بالعودة الى منازلهم. وطرح شاريت أيضاً فرضية إحتلال إسرائيل لمدينة نابلس في المستقبل: كان ذلك، طبقاً لأقواله، ((إحتمالاً منطقياً)). وبذلك الدولة ستعيد الى تخومها آلافاً من اللاجئين، وسيطلب هؤلاء العودة الى أمكانهم وتُسلم الممتلكات التي تركوها. لقد قُبل موقف شاريت، وطبقاً لذلك عُدّل التعريف الوارد في مشروع القانون وشمل كل من ترك ((مكان سكنه المألوف)) حتى ولو كان لايزال يقطن في إسرائيل. بعد زمن كتب شاريت الى سكريتير الحكومة: ((علمت الآن ان وزير الأقليات أعلن ... انه يجيب، في رأيه، الطعن بقرار اللجنة وطرح القضية في جلسة الحكومة. وربما أنه من شبه المؤكد أنني لم أتمكن من الإشتراك في جلسة الحكومة التي سيبحث فيها إعتراض وزير الأقليات بسبب غيابي عن البلد، أطلب تسجيل إصراري الشديد....)) وبقي التعديل كما كان. بعد نحو اُسبوعين، إقترح بن-غوريون تخويل الوكالة اليهودية صلاحبة مُصادرة أراضي غير مزروعة من أجل إستيطان المهاجرين الجدد. بعد فترة وجيزة من تخويل القائم [على أملاك الغائبين] صلاحية بيعها للكيرن كاييمت (الصندوق القومي اليهودي). لقد نفذت الصفقة بموجب مجموعة من الإتفاقات وقعت بين حكومة إسرائيل وهذه المؤسسات. وبذلك صودر أكثر من مليوني دنم من أصحابها العرب. إن بضعة الآف منهم سكنوا إسرائيل، وعرّفهم القانون كغائبين. وعلى الرغم من أنهم تركوا منازلهم أياما معدودة فقط، عندما إنتقلوا الى أقاربهم في القرية المجاورة او في المدينة القديمة حتى إنتهاء المعارك، فقد تم تعريفهم ((كغائبين حاضرين)). ولم يسمح لمعظمهم بالعودة الى منازلهم، وحتى اُولائك اللاجئين الذين سمح لهم بالعودة الى الأراضي إسرائيل بقيوا كغائبين طبقا للقانون، ولم تعد ممتلكاتهم لهم. لكن سكان قرى المثلث، الذين ضموا الى أراضي إسرائيل في إطار إتفاق الهدنة مع الأردن، لم يعتبروا بصورة عامة كغائبين، وإعتبرت أراضيهم التي أصبحت إسرائليلة نتيجة إتفاق الهدنة مع الأردن ممتلكات لهم. أما تلك الأجزاء من أراضيهم التي كانت قد إحتلت قبل ضم المثلث، فقد إعتبرت كممتلكات غائبين، ولم يُعد مُعظمها الى أصحابها. في النصف الثاني من سنة 1951، قدم تقرير يفيد بأن 9 قرى من قرى المثلث البالغة 20 قرية، هي قرى متروكة، ويقيم في باقي القرى 20 االف نسمة تقريباً. ومن أصل 107 ألف دونم في المثلث، يعود نحو 61 ألف منها الى سكان (حاضرين)، 46 ألفاً الى غائبين -بعضهم ((غائب حاضر)). كما أن ما يقارب من 20 ألف دونم من أراضي الغائبين كان مؤجرا لعرب والباقي ليهود.
تحفظ في أحد الملفات مكتب رئيس الحكومة مراسلات بين بعض وزراء الحكومة، يتصدرها طلب تقدم به محام عربي من
حيفا، إلياس كوسا، الى عضو الكنيست دافيد هكوهين، يطلب فيه معرفة ما هو حكم غائب سُمح له بالعودة الى إسرائيل في إطار مشروع جمع الشمل العائلي، وبعد عودته وضع يده على ممتلكات لم تكن له قبل هجرته، سواء بطريقة الشراء أو الوراثة أو بأية طريقة اُخرى. وقرر وزير العدل روزين أن الغائب يبقى غائباً الى الأبد، إلا إذا تسلم شهادة بأنه ليس غائباً، وما دام غائباً فإن ممتلكاته هي ممتلكات القائم على أملاك العدو، وليس مهما متى حصل على أملاكه وكيف. وقد إعترض وزير الشرطة على هذا التفسير، وبعد أيام عُدل القانون كي يتاح أيضاً الى((الغائبين الحاضرين)) تملك ممتلكات جديدة. ومن غرائب القانون أيضاً، التي وردت على لسان عضو الكنيست يوحنا بادر من ((حزب حيروت)) (قوله) : ((بناء على هذا القانون فإن جيش الدفاع الإسرائيلي هو جيش مكزن من غائبين .... فحكم كل شخص من البلماح خرج الى الحرب بعد 29 تشرين ثاني/نوفيمبر 1947 أو في اليوم نفسه، أي ترك مدينته، هو كحكم الغائب، ما لم يتسلم وثيقة أنه ليس غائباً)). وكذلك جمّدت أملاك الوقف الإسلامي، أيضا، كأنها كانت أملاك غائبين. لأن أملاك الوقف، بحسب الشرع الأسلامي، هي مُلك لله: ((الله أصبح غائباً!)). كما كتب ذلك الشاعر العربي راشد حسين في إحدى قصائده.
صورة نادرة في ليافا بعد إحتلالها ويظهر مُهاجرين يهود في المقدمة ويظهر جامع حسن بيك في الخلف. 1949
عندما قُدم الى الكنيست مشروع قانون أملاك الغائبين، حذر وزير المالية الكنيست من أن عليهم الإحتراس في الكلام: ((نحن دولة صغيرة، لكن الإهتمام بها في العالم، بكل ما يجري في داخلها وكل ما يقال فيها، إنما هو إهتمام كبير. إننا موجودون كأننا في صالة عرض، حيث عيون العالم شاخصة علينا، يتفحصون، يستقصون، يحللون كل خطوة، كل عمل، كل كلمة)). وكرر كابلان االتأكيد أن السلطات سواء في الهند أو باكستان، صادرت الأملاك التي تُركت: تكلم وكأن يوخزه ضميره. وفي تقرير داخلي، ليس للنشر، أشاروا أيضاً الى سوابق اُخرى : صادرت تركيا ممتلكات الأرمن واليونان، وصادرت بلغاريا ممتلكات اليونان، وصادر العراق ممتلكات الأشوريين،، وصادرت تشيكوسلوفيا ورومانيا ويوغسلافيا ممتلكات الأقليات الألمانية. لقد إستخدمت صلاحيات الحكم العسكري أيضا لمصادرة اراض: كان الحاكم العسكري يطرد السكان العرب من منازلهم أو يمنعهم من دخول أراضيهم، وبذلك يحرمهم من حراثتها. حينذلك كان وزير الزراعة يُعلنها ((أراضي بور))، أي أراضي لا يزرعها أصاحبها. وكان الوزير ينقل هذه الأراضي، بموجب الصلاحيات الممنوحة له، الى آخرين لزراعتها. وهكذا اُبعد مزارعون عرب كثيرون عن أراضيهم، لكن من دون أن يصادر منهم حق الملكية. بالإضافة الى ذلك، أتاحت قوانين اُخرى مُصادرة أراضي بطرق مختلفة مثل: ((قانون تنظيم الإستيلاء على العقارات في ساعات الطوارئ (1950)، وقانون إستملاك الأراضي - مُصادقة الأعمال والتعويض (1953) وغيرها.
في أيلول / سبتمبر 1951، أرسل القائم [على أملاك الغائبين] م. بورات، الذي حل محل دوف شفرير، وثيقة سرية الى وزير المالية كتب فيها:
((إن إحتفاظنا بمتتلكات السكان الشرعيين في البلد الذين يستفيدون من كل حقوق المواطنية المألوفة، هو مصدر تذمر كبير وغليان دائم في أوساط العرب المتضررين. إن مُعظم الشكاوي المقدمة من العرب ضد قسم القرى في دائرتنا هو شكاوي ((الغائبين)) الذين يشاهدون بحسرة غرباء يضعون أيديهم على ممتلكاتهم. ويحاول هؤلاء الغائبون بكل الطرق إعادة تملك أراضيهم، ويعرضون أنفسهم كمُستأجرين لهده الأراضي بإيجار مبالغ فيه كثيراً. وبناء على الخط العام الذي تحدد في حينه ... لم تحاول دائرتنا على تأجر غائبين أراضيهم وذلك رغبة في تثبيت سيطرتنا على الأراضي المُكتسبة، ومن هنا مصدر الشكوى والتذمر. من الواضح أن هذه السياسة لا تساعد في فرض روح مواطنية جيدة بين العرب الذين اُعيدوا. ويتساءل البعض عما إذا كان من واجب الدولة فعلا، بعد أن أعادت عرباً مُعينين أو وافقت على تسللهم كأمر واقع، أن تثير إستياءهم البالغ وتتركهم عرضة لتحريض سياسي حاد من جانب وسط سياسي مُعين. في رأيي المتواضع، الجواب سلبي. أي أنه يجب أن تكون سياسة الحكومة هو مُطابق لمُصطلح غائب بمفهومه القانوني التطبيقي مع مُصطلح غائب بمعناه المألوف: غير حاضر. وكما ذكر، يجب أن تكون هذه هي السياسة المتبعة. لكن ما هي إمكانات تطبيق هذا السياسة؟ يبدو لي أنه في هذا الوقت لا يوجد إمكان عملي لتنفيذ هذا الأمر، على الأقل بالنسبة الى الممتلكات غير المنقولة. إن عدد ((الغائبين الحاضرين)) يبلغ الآن آلافاً عديدة، مُعظمهم أصحاب أملاك غير منقولة. وقد أصبح قسم كبير من هذه الممتلكات يخضع لحقائق منتهية، وفي مقدمها الإستيطان الأمني. إن كل محاولة لتسليم هؤلاء الغائبين ممتلكاتهم ستلحق ضررا بآلاف او بعشرات الآلاف من المستوطننن والقاطنين، وكذلك بالمعسكرات والمنشآت العسكرية)).

ومن أجل التخفيف من مرارة الغائبين الحاضرين، اوصى القائم [على أملاك الغائبين] بالإفراج عن ودائعهم المصرفية على الأقل، وإيجاد طريقة لتعويضهم من ممتلكاتهم المصادرة. ودأب مستشار الحكومة القانوني، ي.ش. شابيرا، طوال الوقت، على التوصية بذلك، على الرغم من انه لم يقع فريسة للأوهام. وقال في إحدى الجلسات: ((سندفع في النهاية تعويضات وسُنعتبر لصوص أيضاً)) وهكذا كان. فقد إقترحت الدولة التعويض الى أقلية من أصحاب الممتلكات فقط. ولم تكن مُقترحاتهم مُغرية: قلائل من أصحاب الممتلكات قبلوا التعويض، ولم يعتبروه بصورة عامة تعويضاً مُلائماً.
تحفظ في أحد ملفات وزارة الخارجبة مراسلات تربط إحتمال أن تدفع إسرائيل تعويضات للاجئين العرب إذا تمكنت ألمانيا في المستقبل من دفع تعويضات لليهود بسبب جرائم الحرب النازية. وفي مرحلة معينة، جرى الحديث ايضا عن إمكانية إستخدام الممتلكات العربية في أرض إسرائيل رهينة للمتلكات اليهودية في الدول العربية. كان هذا إقتراح ب. ش. شطريت، الذي رفضه مستشار وزارة الخارجية القانوني، فكتب قائلاً: ((في نظر الدولة التي تتطلع الى إصطباغها بصبغة حضارية، فإن فكرة رهائن تعتبر عملاً شنيعاً)). وعندما اُجيز بيع أملاك عربية متروكة، أبرق موفدو مؤسسة الهجرة العراقية مُحتجين ومُستغربين: ((وماذا سيكون مصيرالمنازل التي (يملكها اليهود) هنا؟!)).
عندما ناقش الكنيسيت أعمال القائم [على أملاك الغائبين] إدعى عضو الكنيست يعقوب غيل، عضو الصهيونين العمويين، أن 90% من الأملاك المتروكة سُلمت لأعضاء حزب ماباي:
((إن أحزاباً اُخرى و أفراد يهود لاينتسبون الى أي حزب، مظلومون ولا يستفيدون من أي منفعة من هذه الأملاك)). وأورد عدة أمثلة: ((طلب مزارعوا الخضيرة أرضا إضافية وتفاوضوا مع القائم [على أملاك الغائبين]. وفي إحدى الأيام المشرقة، وجد هؤلاء المزارعون أن الكيبويسات المجاورة إستولت على الأرض. وطلب يهود آخرون في هيرتسليا أراض متروكة بالقرب من المستعمرة. فكان الجواب أن الأرض يملكها الوقف [الإسلامي]. والآن يقام على أرض الوقف هذه حي سكني لأعضاء الحزب الحاكم. إن مُعظم الأراضي المتروكة سُلمت الى فئة واحدة فقط من سكان الدولة. وقد قدمت إستجوابا الى وزير التموين والتقنين: لماذا يوجد في
يافا، بالإضافة الى حوانيت المهاجرين الجدد ومشوهي الحرب، محلا همشبير وتنوفا [مؤسسات صهيونية غذائية] فأجابني بأنه لم يفعل ذلك)).
حقا إن القائم على أملاك العدو هو الذي فعل ذلك! يقولون بصورة رسمية: كل من يسبق ينال، وكل من يسبق أن يحظى بحانوت بيافا، لكن من سبق ومن نال؟ مرة اُخرى هذه المسألة تتعلق بالسلطة. كانت تعاونية همشبير تأتي دائماًً في الوقت الملائم، فملفاتها الأولى دائماً، ولها سبيل للوصول الى غرف الوزارات في كل مكان ودائما في الوقت الملائم. ليس في يافا فقط، بل في الرملة واللد وأم الفحم والناصرة أيضاً. التجارة اليهودية الوحيدة هي التي تمارسها هميشبير وتنوفا. والقائم على أملاك العدو يفعل ما يشاء في هذه الأملاك لمصلحة الحزب الذي ينتمي إليه ولمصلحة رفاقه وأصدقائه ... وأصبحت كل الدولة مكتبا سياسيا واحداً)).
حتى أعضاء الوكالة ايهودية تشاجروا أحيانا على تقاسم الغنائم. وإشتكوا موشيه كول، مسؤل قسم هجرة الشبيبة [بقوله] : ((كان في القدس كلية عربية، وأردت أن اُقيم فيها مؤسسة للأطفال المرضى. ثم جاء قسم الإستيعاب وأعلن رغبته في إنشاء مستعمرة للعجزة هناك وهو صاحب القرار)). وتحفظ في إحدى الملفات قائمة منازل وزعت، كما يبدو، على أساس إئتلافي:((منزل كمأوى للأطفال ويزو[المنظمة العالمية للنساء الصهيونيات]، بيت كمقر لمنظمة الأمهات العاملات، غرفة للحزب التقدمي، منزلان كمقر لرائدات هبوعيل همزراحي، منزل لمدرسة ((غيئوليم)) --التيار العمومي، كنيس للطائفة ((السفارادية)) ووزع وزير المالية على أعضاء الحكومة قائمة مماثلة عن توزيع مقار للأحزاب في يافا.
إعترض الحاخام يعقوب موشيه طوليدانو على توزيع الأملاك المتروكة على حساب حزبي، لأن ذلك يحرم غير الحزبين وهم، على حد قوله، أبناء الطوائف الشرقية.
صرف موظفو القائم على أملاك العدو جهداً كبيراً في تسوية القضايا التي وصلت علمهم. فهم يدققون فيها كأنها وحدها المخالفة للقانون وأنظمة الإدارة. كان في ذلك شيء غير مألوف في جو الفسق العام الذي يحيط بهم. وفي نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 1948 كتب السيد أ. أنجل، من مكتب القائم على الأملاك المتروكة في القدس، الى قسم الإسيتعاب التابع للوكالة اليهودية يقول:
((علمت أن السيد برزيلاي، المسؤول عن إسكان المهاجرين من قبل قسمكم، درج على إخراج أثاث وأمتعة اُخرى من منازل متروكة في الحي الألماني[الموجود في القدس الغربية] كي يسلمها (الى المهاجرين). وعلمت أيضاً انه في يوم 3 تشرين الثاني / نوفمبر أخرج بيانو. وبناءاً عليه، أطلب من حضرتكم لفت إنتباه السيد برزيلاي الى عدم إخراج أية أجهزة وأمتعة من المناطق المحتلة من دون موافقة مُسبقة من مكتبي. وأطلب إعلام السيد برزيلاي بأن يقدم، بسرعة، قائمة بالأملاك المتروكة التي أخرجها حتى الآن، مع ذكر أسماء الأفراد الذي سلمهم الأملاك وعناوينهم)).
وبعد اُسبوع، رد قسم رعاية المهاجرين على القائم [على أملاك الغائبين] بما يلي:
((....في حديث مع السيد أنجل، في مستهل عملنا في منتصف هذه السنة، لاحظ الزميل المحترم أن على القائم [على أملاك الغائبين] إيجاد تسوية للأثاث. ولم يتم أي شيء في هذه القضية. وعلى مر الأيام، سطا جنود ومواطنون على المنازل التي اُصلحت أقفالها، وأخرجوا أثاثاً وأمتعة مُختلفة. وفي معظم الأحيان فعلوا ذلك في الإضرابات والأعياد، في الوقت الذي لم يكن فيه عمالنا في المكان. وبمقدار ما وصلت هذه الأمور الى علمنا، أبلغنا ضباط الحكم العسكري في منطقة الحكم العسكري في منطقة الجنوب بذلك. علينا أن نحدد أنه لم يخرج أي شخص من رجالنا اية أجهزة أو أمتعة من المناطق المُحتلة. أما بشأن البيانو، فقد علم برزيلاي في 3 تشرين الثاني / نوفمبر 1948، أن بعض المهاجرين ينقلون أثاث ومن ضمن الأثاث بيانو، من منزل فرانك في الحي الألماني لإخراجه من المنطقة وبيعه في المدينة. وعرقل برزيلاي هذه العملية بتدخله، وأدخل البيانو مسكن أحد المهاجرين الذي تعزف زوجته على البيانو للمحافظة عليه. إننا ننوي إستخدام هذا البيانو لحاجات عامة في المؤسسة --روضة الأطفال، ومدرسة، ونادٍ ...الخ - التي نزمع إقامتها للمهاجرين في الحي الألماني)).
وقد مر اُسبوع قبل أن يؤكد السيد أنجل، مدير مكتب القائم على أملاك الغائبين في القدس، تلقى الرسالة ذات الرقم 2186/9131/23/77، وطلب إعلامه بمكان وجود البيانو الذي اُخرج من منزل فرانك، وذلك بذكر إسم المهاجر وعنونانه بالضبط. وكتب الموظف:
((بما أن البيانو الذي هو مُلك متروك، فإنني أرغب في نقله الى مخزني. لن تكون هناك معارضة من جانبي لبيع البيانو المشار اليه اعلاه الى إحدى المؤسسات التي أشرتم اليها في كتابكم، بناء على توصية مكتبكم. وبعد اسبوع آخر، أعلن قسم رعاية المهاجرين أن البيانو موجود في منزل رقم 12، في الشارع الرئيسي للحي الألماني، وهذا المنزل يحمل رقم 8 في ملفات القسم)). تحفظ في ملفات وزارة الأقليات مراسلات مستمرة بين القائم على أملاك الغائبين وحارس في إحدى القرى المتروكة إعترض على تأجيل دفع أجره. طلب القائم على أملاك الغائبين معرفة عدد الأشجار في كرم الزيتون الذي سُلم له للمحافظه عليه، وكان عددها 7,907 شجرة زيتون.

صورة نادرة لليهود الصهاينة وهم ينهبون ممتلكات أهالي عين كارم المغتصبة، 1949
وزعت الأملاك القروية بطريقة مشابهة لتوزيع الأملاك المتروكة في المدن. وبينما الحرب على أشدها تجول ليفي شكولنيك (إشكول)، رئيس قسم الإستيطان التابع للوكالة اليهودية [وفيما بعد أصبح وزير الوزراء]، في القرى العربية التي اُفرغت واُحتلت. ووجد، على حد قوله، ((آثار لما كان وزال))، منازل مسطوا عليها، منهوبة ومحروقة، والمنظر ((يلتقط وتراكم عبر العينين والأنف والرأس والدماغ والدم والقلب ...)) وفي أحد أيام النصف الثاني من سنة 1948، ذهب إشكول الى القدس يرافقه السائق والى جانبه مساعده رعنان ويتز، نجل
يوسف ويتز. ومر إشكول، وهو في الطريق، بالقرب من البرية، قرية صغيرة على رأس تلة ضخرية جنوبي شرقي الرملة المطلة على طريق اللطرون. وعندما لاحظ البيوت الحجرية المتروكه خطر في باله ان يُسكن فيها مهاجرين جدد. وروى فيما بعد: ((لم أكن أعرف التفاصيل بعد، لكنني أعتقد أن المكان مهجور ويشكل أيضا حلولاً لجمع شملنا)). أوقف [إشكول] السيارة وجال مع ويتز في القرية. وفي أثناء سفرهما الى القدس، وضعا الخطة لإسكان القرية بالمهاجرين، وحينما وصلا حل الظلام. وقال إشكول: ((في ذلك المساء بالذات إتصلت بالحركات الإستيطانية، ودعوت المهندسين، وطلبت مشورة ونصحا بإستعارة سلاح الهندسة، وبدأت تحريك العجلة الكبيرة التي ستساعدنا، في ذلك الشتاء، على تحويل ما يزيد من 45 قرية متروكة الى مستعمرات تزخر بالحياة من جديد)). في نهاية تشرين الثاني / نوفمبير، قال أيضاً لأعضاء المجلس التنفيذي للوكالة اليهودية أنه لم يتجاهل إحتمال عودة جزء من السكان السابقين الى المنطقة المتروكة. وشرح أنه ((بسبب أن زرعتنا ستكون كثيفة فسيكون ممكناً أيضًا تسليمهم مناطق للزراعة)). وعلى حد قوله، لم يكن لديه ميل الى إسكان منازل العرب بالمهاجرين إلا بصورة مؤقتة فقط، الى أن يبنوا منازل جديدة لهم.
في النصف الثاني من سنة 1948، أعد قسم الإستطان التابع للوكالة اليهودية قائمة بعشرات القرى العربية، وأوصى بأن يُوطّن فيها وفي جوارها نوى إستيطانية ومهاجرون جدد. كان مُعظم هذه القرى مهجوراً، لكن القليل منها لم يكن فارغا تماما، إذ خصص بعضها للتدمير بموجب خطط الإستيطان. وكان مُقدرا لأريضها أن تستخدم للإستيطان الجديد. وجد بين وزراء الحكومة من إشتكى على مسمع بن-غوريون من أن الجيش يدمر بعض القرى التي إحتلها. وطرح الوزراء شطريت وبنطوف وتسيزلينغ الموضوع في جلسات الحكومة، مرة تلو الأخرى. وقال تسيزلينغ في إحدى الجلسات:
(( بينما كنت أسير في الطرق كانت تصلني شائعات عن تدمير أملاك. وأريد أن أعرف من أعطى امر القيام بذلك. كنت في
بيسان، وبلّغني أشخاص أثق بهم أن القائد العسكري تلقى تعليمات لتدمير المكان ... إنني اُقدم حقائق عن قرى رأيتها مدمرة. وشاهدت في عيمك حيفر [وادي الحوارث] قرى عربية لم تدمر خلال القتال، بل تركها سكانها. وهي الآن مُدمرة ويجب ان يُستدعى من دمرها للتحقيق معه ...)).
وقال بن-غوريون:
((عندما تتحدث عن بيسان فهذا أمر محدد. لكن عندما تقول بصورة عامة ان قرى قد دُمرت، فإنني لا أستطيع أن أرسل أشخاصا للبحث عن قرى مُدمرة)).
فقال تسيزلينغ:
((من دمر قرية
سركس الموجودة في عيمك حيفر؟ في إحدى الجلسات السابقة ذكرت إسم (موسى) غولدنبرغ (من سكان بيت ألفا) الذي تحدث عن تعليمات لتدمير (40 قرية) وذكر إسمك. إنني لا أعتقد ان ذلك تم بإسمك فعلاً. إنني لا أتكلم الآن في الناحية السياسة، بل في اُمور تجري تلقائياً)).
ليس كل شيء ((يجري تلقائيا)). في أيلول /سبتمر، أبلغ بن-غوريون الى أعضاء اللجنة الوزارية لشؤون الأملاك المتروكة ان اللواء تسفي أيلون، قائد الجبهة الوسطى، يرى ضرورة ((تدمير جزئي)) الى 14 قرية عربية. لقد شرح اللواء لرئيس الحكومة أن تدمير القرى مطلوب لأنه ((بسبب النقص في الطاقة البشرية للإستيلاء على المنطقة والتحصن في العمق، هناك حاجة ملحة الى أيجاد قواعد دفاعية في عمق القطاع)). وقال بن-غوريونن للوزراء:((بما ان هناك صعوبات كثيرة في إنعقاد لجان، أطلب منك إبلاغي رأيك مكتوبا. سأنتظر ردك ثلاثة أيام .... وسيعتبر عدم الرد موافقة)). طلب الوزراء مزيدا من التوضيحات. وفي أيلول سبتمبر 1949، ناقشت الحكومة تدمير المدينة القديمة في
طبرية. وخلال ذلك إستندوا الى رأي يغئيل يادن في وجوب تدمير المدينة القديمة كلها، عدا الأماكن المقدسة، وذلك لمنع إحتمال عودة العرب إليها.
لقد أخد المخطون في الحسبان أيضاً أراضي ذات مُلكية يهودية. وشددوا في خططهم على ألا تكون أكثرية الأراضي التي ستصادر من العرب زراعية، وعلى أن يبقى منها بعد مصادرتها ما يكفي إعالة القرى العربية التي بقيت [عامرة] أيضاً. وجرى التخطيط بتعاون وثيق مع الجيش الإسرائيلي الذي أراد نقاطا مُعينة، لم يطلب أحد الإستيطان فيها. كان الإفتراض أن تحصن المستعمرات الجديدة حدود البلد، وتمنع عودة القرويين الذين هربوا وطردوا خلال الحرب وبعدها. ورأى
يوسف ويتز، مسؤول الكيرين كاييمت ليسرائيل (الصندوق القومي اليهودي)، في خطط الإستيطان الجديدة إستمراراً مباشراً للجهود التي بذلتها الحركة االصهيونية طوال سنين كثيرة، بواسطة الكيرين كاييمت، ((لإنقاذ)) أرض البلد. خلال ذلك إشترت (الكيرين كاييمت) مئات آلاف الدونمات من أصحابها العرب، دونما هنا وآخر هناك. حتى بعد إعلان الإستقلال واصل الشراء. وكتب ويتز في مُذكراته :(( لقد أشرت على خرائطي مساحات أراضي لقرية تلو القرية، وأتوق الى إبتلاع كل شيء)). إعتقد بن غوريون أن الأموال تذهب هدراً، وفضل مصادرة الأراضي، ورأى إن إستعداد الكيرين كاييمت لدفع ثمنها سيرفع سعرها فقط. وقد واصل ويتز الشراء لأنه، بين اًمور اُخرى، خشي أن تفقد الكيرين كاييمت، بإجهزتها، مبرر وجودها وتقفل. وكتب بمرارة قائلا:((إن تفكير بن-غوريون وكابلان هو أن الدولة فوق الجميع، وليست المنظمة الصهيونية إلى أداة مساعدة، ولذلك ستبقى قائمة طوال الفترة التي ستكون فيها ضرورية)). وأمضى وايتز معظم وقته متجولا أرجاء البلد، حيث الهبت القرى المتروكة خياله: أرهبته في الليل لكونها فارغة ومظلمة. وعندما رآها في النهار، ذات مناظر خلابة، مزهرة وخالية من البشر، خجل -على حد قوله- لأن اليهود لم يستوطنوها بعد. وكتب:((هذا البلد واسع والإحساس بالإتساع ينعش القلب)). بعد قليل قررت الحكومة أن تشجع إسكان المهاجرين في كل القرى المتروكة في الجليل. وورد في قرار الحكومة ((ان اللجنة الوزارية لشؤون الأملاك المتروكة ستدرس القضايا المتعلقة بالعرب)). في آب/أغسطس 1948، بحثت اللجنة الوزارية لشؤون الأملاك المتروكة في إقامة 61 مستعمرة جديدة. وإقترحت المؤسسات المسؤولة عن الإستيطان الإكتفاء، في هذا الأثناء، بإقامة 32 مستعمرة على مساحة 120 ألف دونم، منها 58 ألف دونم أراضي عربية، و20 ألف دونم أراضي حكومية، ونحو 20 ألف دونم أراض اُخرى، خصوصاً المانية. وفي إحدى الأمكنة أملاك للوقف [الإسلامي]. وهناك 23 ألف دونم أراضي يهودية. ابدى الوزراء رأيهم في مستقبل السكان العرب، وطرحوا مقترحات لترتيب نقلهم [أو ترحيلهم] قانونياً: لقد وصف وزير الزراعة [تسيزلينغ] الترتيبات القانونية ((بالخرافة)).

بيوت قرية
دير ياسين (القدس الشريف)المغتصبة
بعد بضعة أيام من ذلك، جال رجال مكتب الصحة في إحدى القرى المتروكة بضواحي القدس: كان يرافقهم ممثلوا الحكم العسكري وممثلو قسم الإستيعاب التابع للوكالة اليهودية. وقد وجد موظفو مصلحة الشؤون الصحية في القرية بعوضاً ناقلاً للمرايا، فأعلنوا أنه قبل أن يصبح إسكان القرية ممكنناً يجب رش المنازل بمادة ال د. د. ت. وتعقيم آبار المياه. كانت هذه مُشكلة مالية. وإقترح مكتب الصحة الإستعانة بمتطوعين لإنجاز العمل. وأكد مكتب الصحة أن العمل سهل جداً. وإقترح إستعارة قفازات واقية للأشخاص الذين سيقومون في عملية الرش. وقد رد المسؤول عن قطاع القدس بأن حتى الساعة لا توجد نية في إسكان القرية. لكن ممثلي قسم الإستيطان التابع للوكالة اليهودية الذين جالوا في أراضي القرية كتبوا في تقريرهم لدى عودتهم ما يلي:
((... لانملك معطيات عن مساحة الأراضي، إذ لا توجد خرائط دقيقة تظهر مساحة القرية وخارجها. لكن بقدر ما يمكن ان نحكم من معاينة المكان، فإن الإراضي القابلة للإستغلال الزراعي كبيرة، وتبلغ مئات الدونمات من الأراضي الجيدة والملائمة للزراعة. لقد حرث رجال القرية السابقون هذه الأراضي سنين كثيرة، وزرعوا حول البيوت حدائق وأشجار مثمرة واشجار الزيتون توفر إكتفاء ذاتياً للمستوطنين العتيدين. وفي ضوء المعطيات المذكورة أعلاه، وجدنا أنه من الملائم تقسيم القرية الى نموذج إستيطان، هما : أ- حي مع مزرعة مساعدة مبني على مساحة 5 دونمات، يُخصص فيها لكل مستوطن منزل وفناء قطعة أرض لزراعة الخضراوات والأزهار وأشجار الفاكهة. أضف الى ذلك سينشىء المستوطنون مزرعة دجاج تتسع الى 500 - 1000 طير، ب- سيخدم وسط القرية لإسكان حرفيين وتطوير ورش ومحجار، وسوف يعتاش قسم من الحرفبن من عمله في المكان نفسه وفي مدينة القدس أيضاً. هذان الشكلان من الإستيطان يمكن أن يستوعبا نحو 150- 200 عائلة، أي ما يعادل 50 وحدة مع مزرعة مساعدة، والباقي يكون للسكن فقط. والأبنية بصورة عامة مبنية بشكل أصيل وجميل، ولا تتطلب إصلاحات أساسية. وهناك أيضا بالقرب من كل منزل بئر مياه للإستخدام المنزلي. أن قرب انبوب المياه الرئيسي، الذي يزود القدس، يتيح أيضاً تزويد المستوطنة بمياه إضافيا وقت الحاجة. صحيح أنه لا توجد مراحيض عصرية، لكن هذا الأمر يمكن إصلاحه. يوجد في القرية مباني عامة، مثل مدرسة ومقر رئيسي للمؤسسات العامة ...الخ)).
في الأسابيع التالية نشب سوء تفاهم بين قسمين من أقسام الوكالة اليهودية، فكل منها يريد أن يستلم القرية! لكنهما إتفقا في كانون ثاني/يناير، على أن يتسلم قسم الإستيعاب [القرية] على أن يقيم على أراضيها معسكراً للمهاجرين. لقد اُخذ قرار في جلسة شارك فيها شاؤول أفيغور أيضا، وقيل في المحضر ان موافقة أفيغور كموافقة رئيس الحكومة. إذن اقاموا معسكر مهاجرين في القرية. وفي الأسابيع التالية، بحثوا عن مقاول تكون أسعاره تكون أرخص من أسعار شركة سوليل بونيه. وأقنعوا شركة ((هميكاشير)) للمواصلات بإفتتاح خط باصات الى المكان، كما أقنعوا وزير البريد بأن تربط المستعمرة بشبكة الهاتف. وطلبوا من رئيس البلدية، دانييل أوستر، المساهمة، بمد اُنبوب مياه سمكه 4 إنش. وفي مقابل معسكر المهاجرين، أسكنوا في القرية مستوطنين من بولندا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا، أعضاء نواة كانت مرتبطة ببوعالي يسرائيل. وأقامت تعاونية كوبت حوليم الإستهلاكية فرعاً لها هناك، كما اُقيم كنيس. وأرسلت وزارة المعارف والثقافة تسأل عما إذا كانت هناك حاجة الى صفوف للتدريس. وحتي صيف سنة 1949، تمكنوا من حراثة 20 دونما من كروم الزيتون، وتسويق 300 صندوق خوخ قطفوها من أشجار القرية. وفي المقابل، بدأوا قطف العنب، وقامت مستعمرة جديدة هي غفعات شاؤول ب التي كانت قرية
دير ياسن سابقاً.
قبل ذلك بنحو 15 شهراً، هاجم رجال الأيتسل وليحي القرية وذبحوا نحو 250 [والحقيقة انه ذبح نحو
96] من سكانها البالغ عددهم 400 [والحقيقة انهم كانوا قرابة 600]، وبينهم نساء وأطفال. أما الباقي، فقد طردوا الى مدينة القدس القديمة بعد ان جالوا بهم في موكب بشوارع القدس الغربية. كانت المذبحة في دير ياسين مثل مذبحة اليهود في الخليل قبل ذلك بعشرين عام تقريبأ، منعطفا في تاريخ النزاع الأسرائيلي - العربي، ومن الرموز الشنيعة في كل الحروب.
تحفظ في أحد مافات مكتب رئيس الحكومة المتعلقة بإسكان المهاجرين في (مناطق) زراعية، رسالة من مارتن بوبر وثلاثة مثقفين آخرين هم : أ. سيمون، ود. و. ننتور، وح. ي. روث، طالبوا فيها بعدم إسكان دير ياسين، أو على الأقل تأجيل إسكانها حتى تلتأم الجروح. وكتب الثلاثة:
((إننا نعي جيداً ضاءقة إخواننا المهاجرين الجدد، الذين وصلوا الى الوطن بعد أعوام كثيرة من التشرد والإقامة في مخيمات العزل ومعسكرات التجمع، وحتى هنا لايزالوا في العراء. علاوة على ذلك، نحن ندرك ونعلم أن حكومة إسرائيل ملزومة بالإهتمام بسكانها، وتنظيم حياتهم في إسرائيل، بكل ما تستطيع. لكن مع ذلك نعتقد أن دير ياسين ليست المكان الملائم أو على الأقل لم يحن الأوان بعد لإتخاذ قرار فيما يتعلق بإنشاء مستعمرة عبرية فيها. لقد أصبح إسم القرية ذائع السيط في العالم اليهودي، وفي العالم العربي، وفي العالم كله. لقد قتل في دير ياسين مئات الأشخاص، ونساء وأطفال وأبرياء. إن قضية دير ياسين وصمة سوداء في شرف الأمة العبرية. إن الحركة الصهيونية، وجيش الدفاع الأسرائيلي، وحكومتنا آنذاك (المجاس التنفيذي للوكالة اليهودية)، شعرت جميعا بذلك ،ادانت الجرية الرهيبة بتعبيرات لاتقبل التأويل.
((في حياة كل أمة ودولة هناك أعمال رمزية يجب الإمتناع عن القيام بها، وقيم ثقافية يجب المحافظة عليها، خاصة بالنسبة الى هذه الأمة الكبيرة والعريقة التي دولتها صغيرة وناشئة. إننا نأمل بأن يتكفل الزمن وأعمال الأخوة البناءة بتضميد ذلك الجرح البليغ الذي لم يلتئم بعد، كما لا تزال محفوظة في ذاكرتنا كارثة 13 نيسان/إبريل، عندما قُتل رجال القافلة (الصحية) على جبل المشارف (بعد نحو 24 ساعة من مذبحة دير ياسين). سيأتي الوقت الذي نتمكن فيه من التفكير في عملٍ ما في دير ياسين، عمل يرمز لطموح شعبنا العادل، والى الأخوة مع الشعب العربي. نحن نقترح منذ الآن عملاً كهذا. لكن في الأفضل أن تبقي أرض دير ياسين غير مزروعة، وأن تترك منازلها شاغرة، بدل من أن تدنس بعمل تفوق سلبياته إجابياته. إن إستيطان دير ياسين، الذي يخرج الى حيز التنفيذ بعد عام فقط منذ حدوث الجريمة، في إطار الإستيطان العادي، سينطوي على نوع من الموافقة، أو على الأقل التسليم بالقتل الجماعي آنذاك. فلتبق دير ياسين بلا إسكان مؤقتاً، وليشكل هجرها رمزاًً رهيباً ومأساويا للحرب، ونذيراً لشعبنا بأن أي عملية عسكرية لن تبرر أبداً أعمال قتل من هذا النوع إذ لا تريد الأمة الأستمتاع به)).
لم يجب بن-غوريون على الرسالة. وقد أرسل بوبر وزملاؤه مُذكرة في أثر آخرى، وردّ سكريتير رئيس الحكومة بأنه مشغول الى حد أنه لا يستطيع إبداء رأيه في رسالتهم.
بعد عدة أشهر طرح إسم القرية [دير ياسين] في الكنيست أيضاً. كان ذلك خلال نقاش بشأن قرار الحكومة السماح الى 100 ألف لاجىء بالعودة الى إسرائيل:
يعقوب مريدور (عضو في حزب حيروت): لقد عرفت روسا كيف تحل مشكلة الألمان في منطقة الفولغا في وقت الحرب، التي سكنها 800 ألف ألماني .... لقد نقلت [روسيا] هؤلاء شرقاً، الى ما وراء جبال الأورال. إذا وقعت الجولة الثانية من الحرب، الى أين ننقل الطابور الخامس[ مشيراً لعرب 1948] هذا؟ هل سنتمكن من القيام بعمل كهذا وشاطئنا عرضه 15كلم؟ او نجبر على إخلاء تل أبيب لإرجاعهم ومراقبتهم.توفيق طيبي (ماكي): أنت تعد لدير ياسين اُخرى!مريدور: بفضل دير ياسين إنتصرنا سيدي!أ. بن أليعازر (حيروت): لا تكن حزينا لهذا الحد.أ. تسيزلينغ (مبام): لا تتباهى بدير ياسين.أ رزيئيل ناؤور (حيروت): لا يوجد ما نخجل به....!زلمان آران (ماباي): بصفتي عضو كنيسيت من واجبي أن أرد على عبارات الإعتراض التي قيلت هنا أمس من مقاعد حيروت. كانت العبارة: نحن لا نخجل بدير ياسين.أ. بن أليعازر: كم دير ياسين نفذتم أنتم؟آران: لمصلحتكم اُريد القول أنني لا اصدق أنكم لا تخجلون مما حدث في دير ياسين.بن أليعازر: يجب ألا تتباهوا بأمور فعلتموها بأنفسكم.آران: لا أعرف أننا فعلنا في دير ياسينات.بن أليعازر: يمكنك أن تسأل وزير الدفاع إذا كنت لا تعرف!آران: .... لو تصورت أن دولة إسرائيل ستكون مُهيأة [لأمثال مذبحة] دير ياسين لما رغبت في أن أكون فيها عربياً فحسب، بل لما رغبت في أن أكون فيها يهودياً!
تحفظ في ألأرشيف الصهيوني وأرشيف الدولة ملفات كثيرة تتعلق بإسكان غفعات شأؤول ب: أن الأسم السابق للقرية مذكور في هذه الملفات بين قوصين من دون أي خجل كما يبدو. حتى الصحافة كتبت تقارير عن إعادة إسكانها مجدداً، وكأنها كانت قرية ككل القرى: لقد إحتشد هناك بضع مئات من المدعوين الى إحتفال تدشين المستعمرة. كان بينهم الوزيران كابلان وشابيرا، بالإضافة الحاخامين الرئيسسن ورئيس البلدية. وقد بعث الرئيس حاييم وايزمن برسالة تهنئة، كما عزفت الفرقة الموسيقية لمعهد الضرير وقدمت التحية. لم يشعر الصحفيون بأي حرج عندما كتبوا تقارير عن إعادة إسكان 350 قرية متروكة. وتعكس التقارير إيماناً صلباً لا يتزعزع بحق الإستيطان وعدالته. ومما كتبته جريدة ((دافار)): ((... على وقع خطى جيش الدفاع الإسرائيل يحل [بالسكان العرب] رعب كبير، وإقتلاعهم من مكان الى مكان. وفي طريق المثلث هربوا على ظهور الحمير وحّملوا جمالهم بالأموال المنقولة. ... والآلاف (في [قرية]
الجماسين -هي حي غفعات عامال)ساكنون جدد جاؤوا حديثاً عن طريق قبرص: فلول الحرب من معسكرات أوروبا .... حول طاولة، وبقايا الأثاث المتروك، وأرقام ....)). وكتبة صحيفة ((هآرتس)) : ((قسائم خضر خلابة تحيط اليوم ببيوت القرى المتروكة في أرجاء البلد المختلفة نتيجة نشاط وزارة الزراعة التي تساعد المهاجرين الجدد في إنشاء مزارع مساعدة ...)). ومما كتبه ((دافار هشفواع)) [ملحق صحيفة ((دافار))الأسبوعية] : ((... أنت لن تعرف عاقر الآن. ففي القرية المتروكة إستوطن ما يزيد عن 1000 لاجىء يهودي...)) ومثل هذا الكلام قيل عن الإستيطان في دير ياسين. وفيما بعد، نقل معسكر المهاجرين الى سلطة وزارة الصحة التي أقامت فيها مصحاً للمرضى النفسانيين. وقد أصبحت القرية التي إستوطنت، ضاحية من ضواحي القدس.
وبين أكوام الورق، التي خلفتها تلك الأشهر، يوميات ورسائل وبرقيات ومذكرات وتقارير ومحاضر وتسجيلات صوتية وأناشيد وكتب ومقالات في الصحف وخطابات في الكنيست. ومن خلال الكلمات التي قالها الدكتور زيراح فيرهافتيغ، عضو الكنيست، خلال النقاش بشأن قانون أملاك الغائبين، تبرز هذه الأسطر كتعبير أصيل عن إحساس الكثيرين: (( من مثلنا؟ شعب فقير الأرض، شعب لم يكن يملك دونما من الأرض طوال سنين كثيرة، عرف ويعرف ويجب أن يعرف كيف يقدر هذه الأرض. إن كلمة إنسان هي من جذر الأرض. يقول حكماؤنا: كل إنسان لا أرض له، ليس إنسان. الآن فقط، إذ نملك دولة وأرضاً، يمكن أن نسما اُمة وناس)). ومع قدوم المهاجرين، وعلى الأخص من الدول العربية، تبلور في الصحافة الميل الى تصوير الهجرة كجزء من تبادل سكاني وتبادل أملاك. هؤلاء خرجوا وأولئك جاؤوا، وهم جميعا تركوا ما كان لهم في أماكنه.
وقد سيطر القلق على صحيفة ((هآرتس)) من قلة البيوت المتوفرة كعادتها: ((نحن نقف على حافة أزمة خطرة بالنسبة الى الإستيعاب المهاجرين)). وحذرت الصحيفة: ((بعد شهر لن يكون في المناطق المتروكة مكان للإسكان)).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق